هل ازداد النوبيون تماسكا بعد التهجير؟

                                                             د. أحمد سوكارنو عبد الحافظ

لقد بحت أصواتنا وتصدعت رؤوسنا ونحن نتحدث عن عدم رغبة النوبيين فى الانفصال عن أرض الكنانة، ومن الملاحظ أن معظم كتابنا الصغار والكبار لا يصدقون ما نقول وكأننا نصرخ فى البرية، إذ يظهر علينا بين الفينة والفينة من يؤكد أن الشعب النوبى يرغب فى إقامة دولة مستقلة وأن الروائى حجاج أدول لم يشد الرحال إلى واشنطن إلا للمطالبة باستقلال النوبة. وربما يغير هؤلاء الكتاب رأيهم بعد قراءة السطور التالية التى تلقى الضوء على مصير الثقافة النوبية المتمثلة فى اللغة والعادات والتقاليد التى كان يمارسها أهل النوبة قبل إخلاء قراهم فى الموقع القديم.

 

كانت النوبة القديمة تقع على ضفتى النيل فى مناطق لا يمكن الوصول إليها إلا عبر القوارب والسفن. ولم تكن القرى النوبية تجاورها قرى الصعيد التى يتحدث أهلها اللغة العربية. ولم يعرف الإرسال التلفزيونى والصحف اليومية طريقها الى تلك البلاد المترامية الأطراف والتى بلغ امتدادها حوالى 350 كيلومتر، ولذلك احتفظت النوبة بملامحها الثقافية التى تمثلت فى لغتها وعاداتها وتقاليدها. والجدير بالذكر أن النيل كان يلعب دورا محوريا فى تشكيل الثقافة النوبية بيد أن إنشاء خزان أسوان عام 1902م وتعليتها المتتالية حتى عام 1932م أدى إلى هجرة بعض أهالي النوبة إلى الشمال حيث أقاموا مجتمعات جديدة فى الأقصر واسنا ودراو. وفى العقد الأول من ستينيات القرن الماضى تم تهجير النوبيين وتوطينهم فى قرى متلاصقة بالقرب من كوم أمبو ولكنها بعيدة عن نهر النيل. وكان لهذا الانفصال بين النهر الخالد والنوبة اكبر الأثر فى انهيار واندثار منظومة الشعائر التى كانت تبدأ وتنتهى فى النيل. وفى الواقع فإن هذه الشعائر كانت تتصل بدورة الحياة منذ الولادة وحتى الممات. كما أن قرى النوبة فى موقعها الجديد صارت شديدة الاقتراب من قرى القبائل المتحدثة باللغة العربية وقد أصبحت اللغة العربية هى الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين أطراف لم تكن تلتقى بهذه الكثافة فى الماضى.

 

ومن المسلم به أن السياسة التعليمية ووسائل الإعلام لها تأثير على اللغة. فاللغة العربية هى وسيلة التعليم فى مدارس النوبة ولا وجود للغة النوبية التى لم تعرف الكتابة منذ العصر المسيحى. وهناك قناعة لدى أهالي النوبة أن التعليم هو السبيل الوحيد نحو الترقى والازدهار وإن الإلمام باللغة النوبية سوف يعيق التقدم والتفوق العلمى. أما وسائل الإعلام المتمثلة فى الصحافة والتلفزيون فلقد أصبح لها تأثير فعال فى انتشار اللغة العربية فى المجتمع النوبة، وفى المقابل قد تقلص دور اللغة النوبية وانحصر استخدامها فى المحيط العائلي وحلت اللغة العربية محلها عند مناقشة الأمور السياسية والاقتصادية والرياضية.

 

ومما سبق يتضح لنا أن الثقافة النوبية المتمثلة فى اللغة والعادات والتقاليد فى طريقها إلى الاندثار التام ولن يتبقى من النوبة سوى اسمها وأسماء القرى التى لم تتغير منذ التهجير، ومن المؤكد انه لن يتبقى من الملامح المميزة للنوبيين سوى بشرتهم السمراء.

 

والدليل على أن المجتمع النوبى فى منطقة كوم أمبو بدأ يفقد تماسكه وترابطه الذى اشتهر به منذ الأزل هو أن النوبة ولأول مرة منذ التهجير أو ربما قبلها تفقد مقعدها فى البرلمان. ويعزى البعض ذلك إلى سوء الحظ الذى لازم مرشحى النوبة فى هذه المرة. وهذه الفرضية تميل نحو التباسط فى تناول الأمور. وقد يرى البعض الآخر أن كثرة مرشحى النوبة أدى إلى تشتيت الأصوات: كان هناك أكثر من اثنى عشر مرشحا من رجال النوبة الذين سعوا للحصول على مقعد المجلس، وهذه المقولة مردود عليها لأن انتخابات عام 2000م شهدت عددا مماثلا من مرشحى النوبة بيد أن أحدهم استطاع الفوز بمقعد تحت قبة البرلمان. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن أسبابا أخرى ربما أدت الى ضياع المقعد بعد اكثر من ستين عاما. فمن الملاحظ أن أهالي النوبة المقيدين فى جداول الانتخابات بدائرة كوم أمبو ونصر حوالى 52155 ناخيا لم يشارك منهم فى الجولة الأولى سوى 12614 أى حوالى 25% فقط من إجمالي الناخبين. أما فى جولة الإعادة فقد تناقص عدد الناخبين ليصبح 11915 أى حوالى 24%، هذا رغم وجود مرشح واحد من أبناء النوبة فى جولة الإعادة. ومن الملاحظ أيضا أن بعض المرشحين الذين لم يحالفهم الحظ فى الجولة الأولى ساهموا بطريقة أو بأخرى فى إخفاق مرشح النوبة فى جولة الإعادة بل أن أحدهم كان يرقص طربا عندما أعلنت نتائج الانتخابات. وهذا يؤكد أن تماسك المجتمع النوبى بدأ ينهار ولم يعد أهل النوبة يهتمون بضرورة أن يكون لهم ممثلا تحت القبة، ممثلا يستطيع أن يكون حلقة اتصال بين المجتمع النوبى والحكومة.

 

وخلاصة القول إن المروجين لانفصال النوبة لن يجدوا ما يقولونه فى مواجهة الحقائق الواردة فى السطور السابقة. إن الفترة التى تلت التهجير والتى تناهز أربعين عاما كانت كافية لمحو القدر الأكبر من مظاهر وعناصر الثقافة النوبية المتمثلة فى اللغة ومنظومة الشعائر والعادات، وهذه العناصر هى التى كنا نعول عليها عند التحدث عن تماسك وترابط المجتمع النوبى سواء فى محيط القرية أو المدينة. إن اختفاء هذه المظاهر والعناصر أدى إلى اهتزاز التماسك والترابط مما انعكس على نتائج انتخابات مجلس الشعب السابقة.