بفضل رجال العلم والقضاء تتبوأ مصر مكانتها بين الأمم

                                              

منذ فترة قليلة تعرض أساتذة الجامعات والقضاة للاعتداء والإهانة من قبل بعض ضباط الشرطة المنوط بهم الحفاظ على أمن وكرامة المواطنين فى ظل احترام وسيادة القانون والعمل على تطبيقه وفقا للتشريعات المعمول بها. ومما لا شك فيه أن الأساتذة والقضاة يمثلون صفوة المجتمع ويقع على عاتقهم النهوض بالوطن حتى يتبوأ مكانته بين الأمم المتحضرة. فالأستاذ يتولى تعليم الأجيال ضاربا لهم المثل والقدوة فى المحافظة على القيم وحب الوطن والتفانى فى خدمته. أما القضاة فيرسون العدل والمساواة حتى ينتشر الأمن والسلام فى المجتمع. ومن المعلوم أن هاتين الفئتين لا تستطيعان القيام بدورهما على أكمل وجه إذا فقدتا الشعور بالاحترام اللازم تجاههما. فكيف يستطيع القاضى أن يرسى كلمة الحق وقيم العدالة إذا لم يستطع أن يحصل على حقه ممن أعتدى عليه أو أهانه؟ وكيف للأستاذ أن يقف بين طلابه يعلمهم معانى الانتماء وحب الوطن إذا امتهنت كرامته داخل الوطن ولا أقول خارجه؟

 

فمنذ شهور قليلة تعرض أستاذ بجامعة عين شمس للاعتداء من قبل ضابط فى الحرس الجامعى، وعندما لجأ لعميد الكلية وقميصه ممزق طالبا منه الإنصاف ورد الاعتبار فإذا بالعميد يطالبه بالتصالح مع المعتدى ويقدم له قميصا جديدا ليرتديه قبل دخول المحاضرة. ولا أدرى كيف استطاع هذا الأستاذ أن يقف شامخا بين طلابه وأى محاضرة تلك التى ألقاها عليهم وهل كانوا يستمعون إلى محاضرته أم يلقون عليه نظرات الرثاء والشفقة؟ وقد حدث نفس المشهد فى إحدى كليات جامعة أسيوط حيث قام أحد ضباط الحرس بالاعتداء على أحد أساتذتها. وقد يتكرر هذا الأمر فى كليات وجامعات أخرى مما له بالغ الأثر على مسيرة التعليم الجامعى الذى نسعى جميعا لتحديثه وتطويره حتى يواكب التعليم فى الدول المتقدمة. وقد يؤدى تكرار هذه المواقف إلى تدمير ما تبقى من انتماء فى قلوب أساتذة الجامعة, ومن المسلم به أن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يسعى الأستاذ الذى تعرض للمهانة والاعتداء أن يقوم بتلقين الطلاب معانى الانتماء للوطن؟ وكيف للأستاذ أن يشرح لتلاميذه المعانى التى يتضمنه قول الشاعر:      

                  قف للمعلم وفه التبجيلا .... كاد المعلم أن يكون رسولا

 

ولم يسلم القضاة من الاعتداء والإهانة خلال المراحل الثلاثة لانتخابات مجلس الشعب. فهذا قاضى اعتدى عليه أحد الضباط وجنوده حتى كسر ذراعه وذاك قاضى تعرض للتهديد والثبور إذا ما طالب بتطبيق قوانين الانتخابات أو دافع عن حق الناخبين فى الإدلاء بأصواتهم بكل حرية. ورغم أن هذه الاعتداءات تظل وساما على صدورهم ومواقفهم البطولية إلا أن المهانة التى لاقوها ستظل غصة فى حلوقهم ولن تمحوها السنون والأيام. ومن المؤكد أن حضارة الدول تقاس بمدى احترام القضاة والأحكام القضائية، فيروى أن بعض المواطنين الإنجليز قد لاذوا بالقضاء إبان الحرب العالمية الثانية لتضررهم من إحدى المطارات القريبة من ديارهم. وقد أصدرت المحكمة حكما بإزالة المطار من هذه المنطقة، ورغم حالة الحرب والطوارئ التى كانت تخوضها بريطانيا إلا أن تشرشل أصر على تنفيذ الحكم احتراما للعدالة وقال مقولته الشهيرة: فلتخسر بريطانيا الحرب خير من إهدار حكم قضائى. وهنالك موقف مماثل يبين مدى احترام القضاة والأحكام القضائية فى الولايات المتحدة الأمريكية، ففى أكتوبر عام 2002م قام الرئيس جورج بوش بزيارة ولاية فلوريدا والتى يتولى شقيقه جب بوش منصب الحاكم أو المحافظ فيها، وفى هذه الأثناء كانت شرطة فلوريدا تقتاد ابنة الحاكم جب بوش (أى ابنة شقيق الرئيس الأمريكى) ويديها مكبلتين من الخلف إلى المحكمة الفيدرالية بالولاية (فلوريدا) حيث قضت بحبسها عشرة أيام جراء ضبطها وهى تخفى كمية من الهيروين فى حذائها. ولم يستطع الرئيس أو شقيقه التدخل لإنقاذ الفتاة، إذ أن التدخل فى سير العدالة يعد جريمة لا تغتفر فى القانون الأمريكي. هذا فضلا عن قدسية الأحكام القضائية فى بلاد العم سام.

 

وتجدر الإشارة إلى أن قوة انتماء المواطن تتحدد وفقا لما يقدمه الوطن من رعاية وتقدير سواء فى الداخل أو الخارج. فالأساتذة والقضاة هم صفوة المجتمع والماكينة التى تتحرك بها البلاد نحو العلا والمجد. ولا أكون مبالغا إذا قلت إن الذين يسمحون بإهانة الأساتذة والقضاة هم فى الواقع أشد فتكا بأمن وسلامة الوطن من ألد أعدائنا، لأنهم قد يقتلون فى داخلهم الكثير من المعانى والقيم التى يقدمونها لأجيال من الشباب سوف تتولى مقاليد الأمور فى المستقبل. وأتذكر عندما كنت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الثمانينيات من القرن المنصرم وأثناء حفل تخرج طلاب الجامعة عزفت الموسيقى النشيد الوطنى الأمريكي فإذا بدموع الطلاب الواقفين بجوارى تنهمر بغزارة وأصابتني الدهشة البالغة لأنني لم اعتد على رؤية الدموع أثناء الأناشيد الوطنية. والغريب أننى لم أجد تفسيرا لهذا الموقف إلا بعد مضى فترة طويلة، فقد تصادف أن قامت جماعة حزب الله باختطاف مواطنين أمريكيين يعملان فى لبنان وأطلقت تهديدات مفادها أن هذين الرجلين سوف يقتلان خلال ثلاثة أيام، فإذا بالرئيس الأمريكى آنذاك رونالد ريجان يأمر الأساطيل القابعة فى البحار والمحيطات أن تحاصر شواطئ لبنان وزاد على ذلك بأن هدد بمحو لبنان من الخريطة إذا نفذت جماعة حزب الله تهديداتها، وكانت النتيجة أن تراجعت الجماعة عن تنفيذ مخططها. ورغم أننى أصبت بالدهشة للمرة الثانية إذ كيف تصعد دولة الأمور لهذه الدرجة مع دولة أخرى من أجل شخص أو اثنين ولكننى فى نفس الوقت وجدت إجابة للتساؤل الذى ظل يؤرقنى والذى يتصل بغزارة دموع الطلاب أثناء النشيد الوطنى، فهؤلاء الطلاب يدركون أن للمواطن قيمته سواء داخل الوطن أو خارجه مما أدى إلى قوة انتمائهم لبلدهم.

 

وخلاصة القول إن قيمة الدول بين الأمم تتحدد بمدى الرعاية التى تقدمها لمواطنيها فى ظل السيادة الكاملة للقانون، القانون الذى يطبق على الجميع دون أن يكون هناك من هو فوق القانون. ومن المتصور ألا تفرط الدول فى كرامة مواطنيها سواء داخل الوطن أو خارجه طالما كان المواطن يحترم القوانين ويعمل فى ظلها. وهذا يفسر لنا أن المعادلة التى يلاحظها المرء إذا ما نظر إلى خريطة العالم، فيدرك أن الدول غير المتقدمة وغير المتحضرة هى التى تهدر فيها كرامة المواطنين وتهدر فيها الأحكام القضائية ويتعرض فيها رجال العلم والقضاء للامتهان والمذلة بدعاوى مبتذلة وشعارات زائفة. ومصر أقدم حضارات العالم تستحق وتستطيع أن تتبوأ مكانتها المتميزة بين الأمم إذا ما استرد القانون هيبته واستعاد المواطن كرامته، وهذا بدوره سوف يؤدى إلى تنشيط جينات الانتماء والإقبال على العمل بأمانة وإخلاص.

Sokarno 2001@hotmail.com