|
|
ثقافة تجاهل وعدم احترام القوانين
أحمد سوكارنو عبد الحافظ نتحدث كثيرا عن صدام الحضارات، ذلك المفهوم الذى أطلقه صمويل هنتجتون، وقد دأب كتابنا على استبدال لفظة "صدام" بلفظة أخرى هى "حوار"، ولكن فى نفس الوقت أغفلنا التباين والاختلاف القائم بين الثقافات فى تطبيق واحترام القوانين. ومن الواضح أن هنالك ثقافتين لا ثالث لهما، أحدهما ثقافة احترام القوانين وتطبيقها على كافة المواطنين، كما الحال فى الدول المتقدمة، والآخر ثقافة تجاهل وعدم احترام القوانين وهى الثقافة السائدة فى الدول النامية. هنالك قانون فى الولايات المتحدة الأمريكية يطلق عليه "قانون ميراندا"، وهذا القانون هو عبارة عن كلمات تحذيرية يقرأها الشرطى على المتهم أثناء إلقاء القبض عليه، وهى كلمات تتلخص فى حث المتهم على الالتزام بالصمت وعدم الإدلاء بأقوال قد تؤدى إلى إدانته أمام المحاكم. وإذا تقاعس الشرطى عن قراءة هذه العبارات التحذيرية فإن المحكمة تسقط القضية بدعوى بطلان إجراءات القبض. أما فى بلادنا التى عرفت الحضارة منذ آلاف السنين فإننا نرصد ظاهرتين لا يملك المرء إلا الوقوف عندهما للتأمل والمقارنة، وهاتان الظاهرتان تعدان أمثلة صارخة على غيبة أو تغييب القانون. فالظاهرة الأولى تتلخص فى إجبار المتهم على الإدلاء بأقواله والاعتراف بارتكاب الجريمة تحت ضغط التعذيب البدنى والنفسى، ودون أن يرافقه محام خلال المرحلة الأولى للتحقيق. لذا يلاحظ فى مراحل التحقيق التالية أن المتهم غالبا ما ينكر الاتهامات التى سبق أن أعترف بها بل ربما يتهم المحقق بالتعسف واستخدام أساليب العنف والترهيب. أما الظاهرة الثانية فهى تتعلق بالعبارة الشهيرة التى يرددها البعض فى الدول التى يغط فيها القانون فى سبات عميق، وهى عبارة:"أنت متعرفش أنا مين؟"، فمثلا، قد يتخطى أحدهم إشارة المرور، وقد يستوقفه رجل المرور، فعندئذ ينطق المخالف العبارة الشهيرة دون خجل أو مواربة، وهذه العبارة الساحرة قد تؤدى إلى ارتعاش أواصر رجل المرور فيترك المخالف يمضى دون محاسبة. وفى الواقع فإن رجل المرور معذور لأن هذا الشخص المخالف قد يكون ذا حيثية ويستطيع أن يلحق به الأذى والضرر كأن ينقله إلى إحدى المحافظات المخصصة للتنكيل. وغالبا ما يحدث هذا الأمر فى قارعة الطريق أو فى الأماكن العامة وعلى مرأى ومسمع من المواطنين مما له بالغ الأثر على هيبة وسيادة القانون. أذكر أننى كنت فى عربة القطار المتجه إلى القاهرة، وفجأة أشعل أحد الركاب سيجارة داخل العربة، فاتجه إليه أحد أفراد قوة الحراسة لكى ينبهه بالمخالفة التى يرتكبها، فإذا بهذا الشخص المخالف يعلن عن شخصيته دون خجل أو استحياء، وكأنه يهدف الى إدخال الرعب فى قلوب ركاب القطار (وفيهم مرضى بالربو فى طريقهم للعلاج فى القاهرة) حتى لا يطالبون بحقوقهم فى استنشاق هواء نقى خال من الدخان. والغريب فى هذا الأمر أن هذا الشخص من رجال القانون ومنوط به احترامه أولا قبل تطبيقه. دعنا نقول إن الخطير فى هذا المشهد هو أن يجاهر أحد رجال القانون بمخالفة قوانين البلاد التى عهدت إليه تنفيذها وتطبيقها. إن هذه العبارة الشهيرة التى نكاد نسمعها بشكل يومى لا يستطيع أن ينطق بها أحد فى الدول المتقدمة والتى ترتفع فيها قامة القانون على كل القامات. ومن الملاحظ أن مواطنى الدول النامية والذين يشعرون بقيمتهم وأهميتهم من خلال مخالفة القوانين لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك إذا ما ارتحلوا الى تلك الدول التى تطبق فيها القوانين بكل صرامة، فيروى أن سفير دولة إفريقية مهمة تعدى السرعة القانونية فى إحدى الدول الاوربية، فاستوقفه رجل المرور لتوقيع الغرامة الفورية، ولم يلتفت لصرخات السفير الذى سرعان ما كشف عن هويته، قائلا: أنا سفير وممثل دولة! فأردف الشرطى قائلا: أنت هنا فى النمسا. وقد خاب ظن السفير، إذ كان يعتقد أن الشرطى سوف يخر ساجدا طالبا منه الصفح والعفو، ولكن الشرطى استمر فى الإجراءات القانونية. ومن المؤكد أن الشرطى يدرك أن صرخات السفير سوف تذهب أدراج الرياح وأن الأذى لن يلحق به بل أن الأذى والضرر سيلحق بأي شخص يجرؤ على التدخل لإيقاف أو تعطيل تطبيق القوانين. وخلاصة القول فإن ثقافة احترام القوانين هى ثقافة يكتسبها الفرد من خلال ملاحظاته اليومية فى كافة مناحى الحياة، فهذه الدول المتقدمة ليست بها جينات خاصة باحترام القوانين. ونحن بدورنا نستطيع أن ننمى هذه الثقافة فى مؤسساتنا التعليمية من خلال تقديم القدوة لأجيالنا القادمة. وهذه القدوة قد يحصل عليها المواطنون من روافد أخرى، فرجال القانون فى الأماكن العامة يقدمون القدوة إذا ما التزموا بتطبيقها وعدم مخالفتها جهارا نهارا، ورجال السلطة والحكومة يقدمون لنا القدوة إذا ما سارعوا الى تطبيق الأحكام القضائية دون السعى نحو تعطيلها بالأساليب القانونية المعهودة، وخاصة تلك الأحكام التى تتعلق بحقوق المواطنين. إن اكتساب ثقافة احترام القوانين سوف يكون بلا شك أولى خطواتنا نحو التقدم والرقى. |