خصائص القصة القصيرة والرواية النوبية 2
الحوار المتمدن - العدد: 1839 - 2007 / 2 / 27
خصائص الرواية النوبية
هنالك الكثير من الجدل حول مصطلح الأدب النوبى حيث يفضل البعض التعامل مع الروايات
والمجموعات القصصية التى أشرنا إليها فى المقال السابق على اعتبار إنها تنتمى إلى
الأدب النوبى. وهنالك من يفضل الإشارة إلى هذه الأعمال على أنها تنتمى إلى الأدب
العربى. ومن الملاحظ أن بعض أدباء النوبة يحرصون على تحديد هوية أعمالهم الأدبية فى
الصفحة الأولى التى تحمل عنوان العمل الأدبى أو الرواية، كما الحال بالنسبة لإدريس
على الذى يقدم رواية "دنقلة" على أنها رواية نوبية، ونجد أيضا يحى مختار يقدم
مجموعته القصصية "عروس النيل" على أنها قصص من النوبة. وكذلك الأمر بالنسبة لحسن
نور فى رواية "بين النهر والجبل" ومحمد وهبة فى رواية "أوه مشا". والجدير بالذكر أن
الهيئة العامة للكتاب قامت بنشر رواية حسن نور "بين النهر والحبل" فى سلسلة
(الرواية العربية). وقد كتب عنوان الرواية على النحو التالى: بين النهر والجبل
رواية نوبية. أما رواية "الشمندورة" فتم تقديمها للقارىء على أنها "أول رواية نوبية
فى الأدب العربى". وفى الواقع لا يهمنا هذا الجدل الحاصل حول هذه المصطلحات ولا
ينبغى أن نتوقف كثيرا عندها، فكل الأعمال الأدبية التى ذكرناها مدونة باللغة
العربية بدءا من "الشمندورة" وحتى أحدث رواية سطرها أديب ينتمى إلى النوبة. وإذا
استبعدنا اللغة كمعيار رئيسى للتصنيف، فهل هناك خصائص أخرى لهذه الأعمال، خصائص
تجعلها فريدة ومختلفة عن أعمال أخرى مدونة باللغة العربية؟
أولاًً:- الموضوعات التى تناولتها الروايات والقصص القصيرة
تدور أحداث هذه الروايات حول النوبة والقضايا المرتبطة بها، وهى تحاول إلقاء الضوء
على المشاكل التى يواجهها النوبيون والنوبة منذ البدء فى إنشاء خزان أسوان. والجدير
بالإشارة أن هنالك موضوعين مهمين يبرزان فى هذه الروايات: 1-الهجرة والتهجير
2-مظاهر الحياة النوبية.
أ. الهجرة والتهجير
معظم هذه الأعمال تتناول الفترة التى سبقت أو واكبت أو تلت تهجير النوبيين إلى
الشمال، فبعض هذه الأعمال تحاول رصد معالم الحياة فى الموقع القديم، ومن هذه
الأعمال رواية "الشمندورة" للكانب والروائى الفذ محمد خليل قاسم، ويتناول فيه حياة
وثقافة النوبيين فى تلك الفترة ثم موقفهم من الأخطار الناجمة عن الفيضانات التى
أسفرت عنها بناء خزان أسوان فى أوائل القرن العشرين. فمثلا، يستخدم الروائى خليل
قاسم تكنيك تيار الوعى لدى أحد شخصيات الرواية وهو باشرى، رجل من الكنوز:
وأطرق باشرى يفكر..هؤلاء الناس لاهون عن الكارثة فوق رؤوسهم
إنهم لم يجربوا النار بعد، لقد جربتها أنا..جربتها صغيرا ورأيت الموت
يزحف أمواجا على نجوعنا هناك فى الشمال. إنهم لا يعرفون ما قاله النائب
عبد الصادق عبد الحميد، ولا ما قاله سليمان عجيب، لا يعرفون ما عرفناه
نحن هناك فى أسوان عندما كانت سفينتى ترسو فى مينائها قبل أن تجتاز
هاويس الخزان. (الشمندورة، ص119)
وكذلك نجد نفس الموضوع فى رواية "الكشر" حيث يتعرض أهالى قرية توماس لفيضان عارم
يتطلب التضحية بنفس بشرية (فتاة غير متزوجة). وكذلك نجد حسن نور فى روايته "بين
النهر والجبل" يشير إلى موقف الناس من التهجير والآثار المتربة على هذا الأمر.
وهنالك بعض الأعمال الأدبية التى تتناول التأثيرات الناجمة عن التهجير. ومن هذه
الأعمال المجموعة القصصية "وقائع غرق سفينة" لإدريس على و"العشق أوله القرى"
لإبراهيم فهمى. وكذلك الأمر فى رواية "أرض الجزيرة" حيث يتناول المؤلف (سيد أسحق)
قضية تهجير النوبيين نحو الشمال والتى يشير إليها كنقطة تحول مهمة فى تاريخهم:
وكأن ظاهرة الهجرة فى الجنوب ظاهرة طارئة، مجرد تنفيذ قرار
فى زمن محدد لترحيل هؤلاء القوم من مخاوف ارتفاع منسوب
المياه أمام السد العالى متجاهلين أن هذه الهجرة نقطة تحول فى
حياة هؤلاء المهاجرين. تاركين عالمهم الخاص وطريقة حياتهم
وطقوسهم..بل هو اقتلاع من الجذور من أرض الآباء والأجداد.
) أرض الجزيرة، ص74)
الآثار المترتبة على الهجرة والتهجير
أدى بناء خزان أسوان عام (1902م) والتعليات المتتالية له (عام 1912، 1933) إلى غرق
الأراضى الزراعية فى بلاد النوبة، وكذلك المنازل القريبة من نهر النيل، فأضطر
النوبيون إلى إعادة بناء منازل فوق قمم الجبال المتاخمة للنهر. والجديرة بالإشارة
أن النوبيين يشعرون بالظلم فيما يختص بالتعويضات التى حصلوا عليها بعد أن أغرقت
مياه الخزان أراضيهم ومنازلهم ونخيلهم، فقد كانت الحكومة تدفع خمسين قرشا للنخلة
وعشرين جنيها للفدان. وقد أثار خليل قاسم هذه القضية فى رواية "الشمندورة" حيث تحضر
إلى القرية لجنة لصرف التعويضات، فيقرر الأهالى مقاطعة اللجنة ورفضوا تلقى أية
مبالغ مالية، وسارعوا فى تقديم الالتماسات للمسئولين لعلهم يرفعون هذا الظلم عن
كاهلهم.
كما أضطر بعض النوبيين للسفر إلى مدن مصر والسودان بحثا عن الرزق ولقمة العيش. ولما
كان النوبيون أميين فإنهم اضطروا للعمل فى مجال الخدمة فى المنازل والفنادق.
والجدير بالذكر أنهم كانوا يفضلون العمل مع الأجانب، ويرجع ذلك للتعاطف والاحترام
الذى لا يجدونه لدى مواطنيهم من المصريين. وكان هذا العمل الشاق يمثل قمة المعاناة
النفسية والجسدية لهم، فسعوا لتعليم أبنائهم فى مدارس المدن التى يعملون بها. ويقول
حسن نور فى مقالة له بجريدة الوفد الصادرة فى 14 مايو 2001م، ص7:
...يعايروننا ...بأعمال زاولها أجدادنا مضطرين بعد أن أغرقت
المياه التى احتجزها خزان أسوان أراضيهم ونخيلهم فشحت
أرزاقهم، فسعوا فى بلاد الله الواسعة، ولم يكونوا قد زاولوا غير
حرفة الزراعة، فاضطروا لمزاولة نلك الأعمال التى لا تحتاج إلى
مهارة خاصة، لكنهم أخذوا على عاتقهم تعليم أبنائهم. وقد أبروا
بعهودهم، إذ تخرج منهم الطبيب والمهندس والمحاسب والعالم
والمحامى..الخ.
ويؤيد هذا الرأى السيد حامد فى كتابه (النوبة الجديدة): "إن الظروف الاقتصادية
للنوبة الأصلية هى العامل الأساسى لهجرة النوبيين إلى المدن للالتحاق بالأعمال فى
مقابل الأجر النقدى".
استطاع بعض الروائيين أن يعبروا عن هذه المعاناة فى رواياتهم وقصصهم القصيرة، فخليل
قاسم يلجأ ألى تيار الوعى لدى أحد شخصيات الرواية وهو حسين طه الذى كان يستعد
لاغتيال رئيس الوزراء صدقى باشا، رئيس وزراء مصر الأسبق الذى لم يلتفت لصرخات
النوبيين ويعر اهتماما بمعاناتهم:
أنا أفهم أهمية الخزان وضرورته ولكننى أفهم أيضا أهمية أن يتم هذا
كله فى ظل حكومة دستورية، حكومة من الشعب..أن يتم وعلى الدست
يحسنون تدبير مصائر الناس وخصوصا إذا كان هؤلاء الناس يضحون
كل شىء، بكل ما ما يملكون.. يالهم من أنذال.. (الشمندورة، ص269)
أما إبراهيم فهمى فى مجموعته القصصية "بحر النيل" فيقص لنا عن المطاردة والملاحقة
التى عانى منها النوبيون فى المدينة:
أكلمهم طوال الليل، فلا يكلمونى، وحدى تطاردنى وجوه الذين
طردونى من الشوارع، بين آخر الليل وأوله، يطرقون على الأبواب،
ويحطمون الكوالين دون دستور، يعلقون شارات منفئته على صدورهم،
يقلبون الكتب رأسا على عقب، يمزقون من على الجدران، صور
"الحبايب"، والمباخر، "والبروش". بحر النيل ص49.
وكذلك نجد إدريس على فى مجموعته القصصية "من وقائع غرق سفينة" ينتقد أوضاع النوبيين
فى المدينة من خلال وجهة نظر الابن المتمرد الرافض لحياة البؤس والفقر:
اسمع يا شيخ فتة..أنت مهموم ببطنك ولا تعى هذه الأمور، إننى على
استعداد لأكل لحم الكلاب والحنضل والنجيل..لكنى أموت جوعا ولن
أكل فضلات الغير..هل فهمت يا سيدنا الشيخ؟..انظر إليه مستغربا
طالبا الإيضاح..فيضيف ثائرا: لماذا يطعمنا الفضلات..هه قل لماذا؟
هل نحن متسولون؟ إذا كان عاجزا عن إطعامنا فليقتلنا وينتحر.
) من وقائع غرق سفينة، ص12)
ب. مظاهر الحياة النوبية فى الروايات والقصص
العادات والتقاليد
تقدم الروايات النوبية وصفا دقيقا لمظاهر وطقوس الحياة فى بلاد النوبة، إذ تسلط هذه
الروايات الأضواء على عادات النوبيين المختلفة والتى تتضمن عناصر دورة الحياة:
الميلاد، الختان، الزواج والموت وموسم جنى البلح. فهذا خليل قاسم فى رائعته "الشمندورة"
يرسم لنا لوحات مختلفة لعادات أهل النوبة فى المناسبات المختلفة، فمثلا لأهل النوبة
عادات خاصة عند انتظار الباخرة (البوستة) التى تقل على متنها الأحباب والأصدقاء
العائدين إلى موطنهم بعد طول غياب:
وفى كل أسبوع..كنا نذهب إلى المحطة النيلية، وننتظر الباخرة، فتتبغدد
علينا ولا تصل فى مواعيدها، فنظل ننتظر وننتظر حتى يصيبنا الكلال، فننام
على الشاطىء حتى تصوصو فى عيوننا بأنوارها الزاهية من بعيد، فيهلل
الصغار وتصفو نفوس الرجال والنساء..ثم تدنو وتتهادى رويدا رويدا إلى أن
تعانق المرسى، وترمى بالسقالة إلى الموردة، (الشمندورة، ص75.)
وهنالك روائى آخر هو سيد جمال إسحق يقدم لنا فى رواية (أرض الجزيرة) وصفا لسلوك
أهالى النوبة عندما يشاهدون سفينة الأحباب وهى قادمة نحو الشاطىء:
أصوات الضجيج والثرثرة تختلط وتتصاعد وتتداخل وتبتلع أى
مظهر للهدوء، يتحركون فى فوضى عارمة حتى النساء خرجن
من وقارهن، ورحن يلوحن بأطراف طرحهن وزعقن بأصواتهن
المميزة، وكلما اقتربت الباخرة ازدادت الحناجر حماسا واشتعلت
العواطف. (أرض الجزيرة، ص42.)
وهنالك عادات تتعلق بعودة الغائب، فأهالى القرية يتوافدون على منزل العائد من السفر
ويتسامرون معه ويستمعون إلى الحكايات التى يرويها عن المدينة التى يقيم فيها، فهذه
العادة سجلها الروائى خليل قاسم فى روايته "الشمندورة":
..وبعد العناق والأحضان، خلص الرجل إلى "المندرة" وتربع على أريكة
وبدأ الناس من نجعنا ومن النجوع القريبة يتوافدون عليه، والكوانين
مشتعلة وأكواب الشاى، وفناجين القهوة تدور عليهم..وأمرنا الرجل فأدرنا
على الضيوف صندوق سجائره الماكينة... (الشمندورة، ص76.)
وكان النوبيون يحتفلون بموسم جنى ثمار النخيل، عندئذ يجتمع الأقارب والأهل لاقتسام
المحصول حسب أسهم كل فرد فى ثروة النخيل. وكانت هذه المناسبة فرصة لإقامة حفلات
الزفاف. وقد وصف لنا خليل قاسم موسم جنى البلح وصفا دقيقا فى روايته "الشمندورة":
مئات..من الرجال والنساء والأطفال يهبطون مع الشمس الصاعدة إلى
الشاطىء على موعد مع عشرات الألوف من أشجار النخيل، ومئات من
السباطات، وملايين حبات التمر، فالنجع يبدو وكأنه ليس إلا غابة نخل..
نخل من كل لون، من كل مذاق، ولكل نخلة حياة كاملة، وصفات متوارثة
يحفظها عم نوح..عن ظهر قلب. (الشمندورة، ص114)
وللنوبيين طقوس خاصة عند ولادة الأطفال وأثناء حفلات الختان والزواج والموت. فمثلا،
عندما تقترب ساعة الولادة يوضع أناء (من القطن والزيت) مشتعل بجوار رأس الأم، كما
يوضع سكين وأظافر تحت الوسادة لحمايتها من الأرواح، كما يوضع باذنجان وبعض البلح
والقمح فى أناء بالقرب من رأس الأم، ويبقى الثوم والكحل على مقربة من الداية التى
تضعها فى عين المولود. يقدم لنا خليل قاسم هذه العادات المتصلة بالولادة فى روايتة
"الشمندورة" حيث يصف تجربة حجوبة مع الولادة:
وعادتا إلى الفناء، وصبتا كيلة كاملة من الذرة فى عمرة كبيرة من الخوص
الملون ثم شدتا المولود، ووضعتاه على الذرة تعمدانه , وأمه تراقبه من خلف
جفونها المسدلة. ثم مدت بطة يدها إلى المكحلة.. وعبثت فيها قليلا ثم قربت المرود من
جبين
المولود ورسمتا عليه فى عناية شديدة صليبا مضت تتأمله ثم أعادت المولود
إلى أمه! (الشمندورة، ص134.)
ونجد يحيى مختار فى روايته "ماء الحياة" يقدم لنا بعض الطقوس التى تتصل بالموت حيث
يصف سلوك الأهالى (قرية الجنينة والشباك) فور سماع نبأ وفاة راجية هميد غرقا فى
مياه النيل:
غطوا "راجية" بأعواد الحلفا وسعف النخيل، وتقاطر خلق
كثير من الأهل ودوى العويل والصراخ واللطم على الخدود
وحسو التراب فوق الرءوس وشج الملابس "سكينة برون عمة
راجية" ألقت بنفسها فى النهر وهى تولول صائحة " إبيوه"
راجية إبيوه...يالهوك يا راجية يا لهوك" (ماء الحياة، ص13)
كما يقدم لنا يحي مختار وصفا لطريقة الدفن التى استخدمها النوبيون فى البلاد
القديمة، وهى عادات تغيرت بعد سنوات التهجير فى موطنهم الجديد فى شمال وشرق كوم
أمبو:
...المعول يشق اللحد عميقا..تجويف جانبى فى القاع حيث يوسد
الجسد الرأس للقبلة شرقا..ولكن العمق كاف..طول قامة الرجل
لتمتنع الجثة عن الضباع والذئاب التى ستهبط من شعاب الجبال ليلا.
سارعوا فى دك التربة واقامة شاهدين وعند الرأس حفر حوض صغير
على عجل القيت فيه حبات القمح وارتوى القبر مع الحبات من بزخات
من ماء النهر.، (ماء الحياة (16-17.
وكذلك نجد حسن نور يقدم لنا فى روايته "بين النهر والجبل" وصفا لاحتفالات الزواج فى
قرية نوبية هى قورتة حيث يحتفل أهلها بزواج أحد أبنائها (محجوب):
..خرجت النساء بأطباق الخوص الكبيرة على رؤوسهن يتوسطها صحاف
امتلأت بالادام وأصناف الطيور واللحوم، وجرى الصبية إليهن..تناولها منهن
..رصوها فوق الأرض وراء جدار الجامع الغربى..تقدم اثنان من الرجال..
أعادوا توزيع الصحاف وقطع اللحم..وأجزاء الطيور..تحلقها الرجال..غرسوا
الأصابع فى الصحاف..فتكت الأسنان بقطع اللحم..(بين النهر والجبل، ص33)
ونجد أيضا حجاج أدول فى مجموعته القصصية "غزلية القمر" يقدم لنا وصفا دقيقا لحفلة
العرس التى شهدتها القرية والقرى المجاورة، ولا يتردد فى وصف الملابس أو الأزياء
التى كان يرتديها المشاركون فى هذا العرس:
الرجال فى جلابيب وعمائم بيضاء. النساء يرتدين الأثواب السودانية
فضفاضة بألوان الطيف الفاقعة. تلفهن تماما عدا أعلى الصدر والعنق
والذراعين. يسقط من أعلى الرأس للخلف لتطل الشعور المجدولة
المدهونة، تكلل الوجوه السمحة الباسمة. يرقصن لجات لجات متقاربات
صافات ، يجمعن ألوان الدنيا، ثوب أحمر. ثوب أخضر. ثوب أزرق
وثوب أصفر. ثوب يجمع اللونين وثوب يجمع ثلاثة. (غزلية القمر،ص81)
وكذلك يقدم لنا وصفا للرقص النوبى المتميز، وهو نوع من الرقص الهادئ حيث يصطف
الرجال والنساء فى صفوف متوازية ويتحركون يمنة ويسرة مع أنغام الموسيقى:
ابتدأ الرقص فى السخونة. تقوت الدفوف. دفع الله يعطى الحيوية فى
ناس الجزيرة. يشاكس كل من يصادفه كبيرا كان أم صغيرا. رجلا أم
امرأة. انضمت صفوف الرجال فتراصت متوازية. تتحرك كأنها أمواج
فى بحر النيل وأمامهم فى المقابلة صفوف النساء تفصل بينهم حلبة
التى يدير منها الشداد الأربعة الإيقاع بدفوفهم الطيعة. الصفوف تتحرك
فى سلاسة..تنتقل من رقصة إلى رقصة. (غزلية القمر، ص78)
موسم جنى البلح من المواسم المهمة فى النوبة، فالأهالى ينتظرون هذه المناسبة كل عام
لكى يحصدوا ثمار الجهود التى بذولها طوال العام ويستغلون أموال البلح لإقامة حفلات
الزفاف. فمواسم جنى البلح تجد طريقها فى الروايات النوبية. يتناول حجاج أدول موسم
جنى البلح فى مجموعته القصصية "غزلية القمر":
فى البكور والدنيا مازالت بين ظلمة سائدة وخيوط ضوء بادئة،
يخرج الأطفال فى مساكنهم، يهبطون إلى شريط الزرع العريض
يجمعون البلح المتساقط نم نخيله فى أكياس قماش، فهو مشاع لهم.
يزعجون العصافير التى لم تغادر أعشاشها بعد. (غزلية القمر، ص45)
وكذا يقدم لنا سيد أسحق فى روايته "أرض الجزيرة" وصفا دقيقا لسلوك أهالى النوبة
خلال موسم جنى البلح الذى يعد من المواسم المهمة التى يحتفل فيه الأهالى بهذه
المناسبة السعيدة كل عام:
تجمعات كبيرة وعائلات كثيرة تحت النخيل وجوهم تنطق بالفرحة،
فرحة الموسم، كانت أصوات الأهالى تنساب متزنة وتجد السهولة
إلى السمع، والأولاد كثيرون ولكن الذباب كان أكثر، كانوا يلعبون
ويهللون للموسم، وللموسم تقاليده فهو لا يقل أهمية عن المواسم
الأخرى مثل مولد الرسول، وشهر رمضان، وعاشوراء، فقد كانت
كل القرى تستعد له من قبل، والرجال يقفون فى الفضاء الواسع
أمام النخيل، يتحركون جيئة وذهابا بانفعال ينم عن قلق. (أرض
الجزيرة، ص22.)
|